- ما بعد الألوان, مقالات موجودين
- يناير 31, 2023
إذا طُلِب من بشرى التريكي تقديم نفسها، فإنها لا تعرف كيف تُجيب. ترتسِم ابتسامة على وجهها، يبدو أنها تنتظر وتترقَّب المصطلحات التي سنَسِمُها بها. تقول: “أنا نسوية، كويريّة، هذا جزء من هويتي التي أحاول مُقارَبتها بأسلوب يجمع بين تخصصات عديدة”. عرضٌ جميلٌ وموجزٌ يُلخِّص تلخيصا مُجحِفا مسارا فريدا من نوعه وعقدا من العشرينيات كُرِّس لقضايا الكويريّة والنسوية في تونس. “بُشْ” الآن في الثلاثينات من عمرها وتجربتها الغنية تتحدث عن نفسها…
بدايات النضال النسوي والكويريّ
التقينا بها في منعطف أحد الأزقة. اِلتجأنا إلى حانة من حانات تونس ونحن متعطِّشون للحوار. تونس هذه، هي مكان للحياة والمسرح ومختلف التحولات السياسيّة والاجتماعيّة. تعتبرها بشرى، التي لطالما سعت إلى توحيد الناس وخلق لحظات تقوم على التلاقي والتجمُّع حول حدث فنيّ أو قضيّة ما، مكانًا يسَعُ الجميع.
أُحبّ خلق لحظات جميلة، ولقاءات وتجارب جديدة. الحوار شيء ضروريّ، فكل قناعاتي تبلورت من خلال لقاءاتي. إنه أمر بالغ الأهميّة بالنسبة لي.
تحكي ساحات وشوارع وسط المدينة التجارب التي نَحتَت ملامح مسيرتها منذ أن كانت لا تزال تلتمس طريقها كناشطة شابة وحتى أصبحت ناشطةً مُحنَّكة. وسط المدينة هذا الذي تجوبُه منذ سنواتِ المراهقة والذي مازالت تستغله حتى اليوم مسرحًا لأنشطتها وتحرّكاتها “التي تمزجُ النضال بالفنِّ”.
نشأ هذا الرابط الوثيق بينها وبين مدينة تونس باكرا، منذ سنة 2006، وهي الفترة التي بدأت خلالها بالفطرةِ في تكوين علاقات مع المجموعات النسوية والكويريّة. تشهد اللقاءات المتنوعة التي كانت تلتئِمُ بمحض الصدفة ومحاور الاهتمام والمشاعر المشتركة على وجودٍ جماعيٍّ مُتميِّزٍ. “قُبيل سنوات من الثورة، بدأتُ في التردُّد على الدوائر الكويريّة. حينها، لم يكن كونك كويريّا أمرا مُسيَّسًا. كنا أفرادًا اعتقدوا طويلا أنهم بمفردهم حتى تعرفوا.ن على بعضهم.نّ البعض وتجمَّعوا.ن. وكان ذلك أيضا مُقترِنا بعالم الحفلات. كُنّا نُنشِئ مساحات زمنيّة نعبّر فيها عن ذواتنا. كنا نتصرَّف أمام أنظار الجميع بعفوية في كل مكان نذهب إليه ولم نكن نختبِئ. إذ كانت وحدتنا تشعرنا بالقوّة”. أمّا الآن، فتُدرِك بشرى أن مجرّد التواجد علنا في تلك الفترة كان يُمثِّل طريقة لإثبات الذات، وشكلا من أشكال “النِّضال”.
ثم كانت الثورة …
“بُش” هي جزء من هذا الجيل الذي عرف تونس قبل وبعد ثورة 2011، تلك الانتفاضة التي هزّت حياة الناس وغيّرت المساراتِ وقلبت دنياها.
مثل موجة الصدمة، بلغ تأثير هذه الثورة الحياة الطلابيّة في تونس، لا سيّما في تونس العاصمة. أُنشِئت المجموعات، وأُسِّسَت المبادرات، وانتشرت روح الالتزام والنضال داخل أسوار الجامعات وفي الشارع أيضا. كان الشباب التونسي حالما ومتفائلا. فقد بدأ عهد جديد بما يحمله من أمل.
فور أن أصبحت طالبة في دار المعلمين العليا بتونس، ساهمت في خلق ديناميكية للحوار بين الطلبة، طارحة مواضيع عن اللامعيارية والقضايا الاجتماعية. تقول مُستحضِرة ذكرياتها:” كان جانفي 2011 نقطة تحول هامة بالنسبة لي، كما هو الحال بالنسبة للكثيرين.ات. قبل هذا الحدث المصيري، كانت آفاق المستقبل تبدو ضيّقة للغاية. كطلاب وطالبات في سن الشباب، كانت خططنا المهنية ورغباتنا وأهدافنا محدودة، بل مُحدَّدة منذ البدء. وفجأة، أصبح بإمكاننا تحدّي تلك الحدود وتجاوزها، والإبداع والتصرف بحرية”. وصارت هذه الحاجة إلى رد الفعل دون الانتماء بالضرورة إلى حركة أو تيَّار واضح المعالم أمرًا مُلِحًّا.
بدأت بشرى حياتها المهنية في الجامعة، وتواصل تواجدها على جميع الجبهات: الانخراط في المجتمع المدني والدفاع عن حقوق الإنسان وحرية التعبير. وضَاعَف انتمائها إلى المشهد البديل والفني من تعطُّشِها إلى ترك أثر في المجتمع. “كان من المهم لي أن أعبر عن نفسي أيضًا من خلال الفن. يُسعِدني كثيرا أن أطرح مواضيع حقوق الإنسان والنسوية الكويرية بالاستلهام من كتاب أو من خلال فيلم أو عمل أو حدث ثقافي أو فني”. إنَّ من شأن الكفاحِ بذكاء وبطريقة غير مباشرة أن يُغيَّر حياة الناس والقناعاتِ. كل ذلك من خلال الفن. وتحوَّل تكريس نفسها بالكامل لهذا الأمر إلى قناعة شخصيّة. فوضعت حدّا لمسيرتها المهنية كأستاذة جامعية متخصصة في الأدب الحديث، لتَهَبَ كلّ وقتها للنشاط في المجتمع المدني، واستجابَت لنداء “شوف”، التي تُمثِّل مرحلة جوهرية في مسارها.
نقطة تحوّل هامّة
اكتملت معاني التواجد والنشاط في المجتمع المدني بالنسبة لها في سنة 2015، عندما شاركت في خلقِ “شُوفتُهنَّ”، أول مهرجان نسويّ تونسيّ، والذي نظّمته “شوف”.
وهي جمعيّة نسويّة للمثليّات وثنائيّات الميول الجنسي والعابرات جندريّا، أُنشِئت سنة 2013 للدفاع عن الحقوق الجسدية والفردية لكلّ من تُعرِّف نفسها بأنّها “اِمرأة”. مُتحدين.ات ومجتمعين.ات حول نفس المبادئ والقيم، جعل أعضاء “شوف” أنشطتهم.ن وأحداثهم.ن ومبادراتهم.ن تسبحُ في فلكِ النسوية الكويرية. كانت المجموعة قد نظّمت في بداياتها أول “يوم عالمي لمناهضة رهاب المثليّة الجنسيّة” في تونس بمقرّ الجمعيّة التونسية للنساء الديمقراطيات. وهو حدث هامّ جعلها قريبة من هذه الجمعية التي تُعتبر رائدة النضال النسويّ في تونس، من خلال فتح الأبواب للحوار بين أجيال مختلفة من النسويات.
تُعلِّقُ بشرى قائلة:” في البداية، وبإمكانيات متواضعة، أردنا تغيير حدود المقبولِ، لدفع الأمور قُدمًا”. ومع ولادة “شُوفتُهنَّ” ترسَّخت مكانة “شوف”، كانت بشرى التريكي تعمل على إنجاح المهرجان وتشارك في إنجاز مشاريع أخرى خلال بقيّة السنة.
تقدَّم كل شيء خطوة بخطوة: جذبت أنشطة “شوف” أفرادا من المجتمع كانوا.نّ مجتمعين.ات حول فكر سياسي معيّن وراغبين.ات في النضال من خلال الفنّ. تقول بشرى: “بالنسبة لي، كان ذلك وضعا مثاليًّا. كانت فرصة لإضفاء معنى على ما كنت أرغب دائمًا في القيام به. لم يعد الأمر يتعلق بي، كفرد، بل بقضية: بعلاقة حميمة تُسيَّسُ داخل المجموعة. كانت تلك المرة الأولى التي أردت فيها الانتماء إلى “قوة””. عُيِّنت رئيسًا مشارِكًا للمنظَّمة وشاركت بفعاليّة في تنظيم الدورات الأربع للمهرجان.
الآن، تُدرِكُ الناشطة أنّ “شوف” لم يكن لها هيكل كلاسيكي مُنظَّم. إذ كانت أبواب هذه المجموعة في الواقع مفتوحة على مصراعيها لجميع الأشخاص الذين واللاتي شعروا.ن أنهم.ن معنيُّون.ات بها. أنتجت المنظمة، التي ما فتِئَتْ تتطوَّر من 2013 إلى 2018، أعمالًا فنية، ونظمت معارض، وأنشطة للمناصرة، وقدّمت الدعم القانوني والنفسي للمثليّين والمثليات، والمهاجرين، وطالبي.ات اللجوء، ووفّرت المسكن للكويريّين والكويريّات ذِي الأوضاع الهشّة. “وما كان الأبرزَ من هذا كلّه هو مهرجان “شُوفتُهنَّ”، الذي كان معرضا مفتوحا للجميع. أما الأنشطة التي كنّا نُنجِزها في الأوقات العادية، فقد كانت موجهة أكثر لمجتمع الكوير”. لكن شريان الحياة هذا، الذي كانت عليه “شوف”، لم يُكتَب له طول العمر.
عندما تدق الساعة…
عجزت “شوف” عن الصمود أمام الزمن واستنفدت طاقتها ببطء وثبات. رغم الصعوبات لم تُلغى الدورة الرابعة لمهرجان “شُوفتُهنَّ”. يَحدُوها حنينٌ مُرّ بعض الشيء إلى الماضي، وفي امتنان لتلك التجربة، تستحضر بشرى التريكي هذه الفترة بكل وضوح، وتذكُر تأثير نهاية شوف النفسيّ الشديد عليها وعلى أعضاءٍ وعضوات آخرين.ات..
ومع ذلك، بعد 5 سنوات من نهايتها، تقول إنَّه لم يكن ثمَّة سبب مُعيِّن لاختتام هذه المغامرة، وتلفت النظر إلى تراكم مشاكل مرتبطة بسوء التصرّف في الهيكلة الإداريّة التي أرادوها أن تكون أفقيّة دون التمكّن من القواعد التي يفرضها مثل هذا التنظيم. كانت “شوف” قد قامت على أساس تطوعيّ لسنوات لكن ذلك تغيّر 6 أشهر قبل نهايتها. لقد أثَّر تحول المجموعة إلى تنظيم ذي هيكل مُحدَّد قائم على وظائف وأجور، بشكل جذريّ على الديناميكيَّات الداخلية. وجعل ذلك جوهر المجموعة وأهدافها ورسالتها الرئيسيَّة محلَّ تساؤُل.
لم يكن التحلّي بالأخلاقيات وفصل الجانب الشخصي عن رؤية المجموعة أمرًا سهلاً. فقد كان الجانب الشخصي مختلطا بالعمليّة ككل. لا تنكر بشرى ذلك، إذ تقول:“
إنّ الجانب الشخصي جزء جوهريّ من “شوف”. أنا لا أنكر هذا على الإطلاق: إن امتزاج الجانب الشخصي بالعمل المُلتزِم في مجموعة مثل مجموعتنا أمرٌ حتميٌّ. ترتبط نضالاتنا وتجمعاتنا الكويرية والنسوية ارتباطًا وثيقا بحياتنا الشخصيّة. وجدنا أنفسنا في وضعيّة تتولَّد فيها القصص الشخصية التي كانت أحيانًا مؤلمة، وغالبًا جريئة، ولكن دائما مرتبطة بحبِّنا في أشكاله المتعددة. وكنا نشارك بعضنا البعض هذه القصصَ ونستلهم منها تجاربنا. إن المجموعة المُنخرطة في هذا الضرب من النضال تُوجَد من خلال العلاقات الشخصية ومن أجلها. وإلا فإنها تفقد روحها”.
لكن هذا الأمر نفسه لعب دورًا حاسمًا في انهيار الجمعيّة. لم تكن لدى نواة المجموعة الأدوات أو الوسائل اللازمة لإدارة الأزمات على نحوٍ أفضل. تُوضِّحُ بشرى قائلة: “لو كنا أكثر خبرة، لَاِختلفت الأمور ربّما. لعب العمرُ أيضًا دورًا كبيرًا. عمرُنا وعمرُ نضالِنا. لم تكن لدينا المعارف الكافية في ذلك الوقت لإدارة الموظفين.ات والجوانب المُختَلَّة التي تسبَّبت في هذه النهاية بطريقة أفضل”.
إذا كان سيتم تكوين مجموعة مثل “شوف” في يومنا هذا، فإن بشرى ستعطي الأولوية للتمكُّن من قواعد الهيكلة الأفقية في التنظيم. “هذه الأفقية التي لها قوانينها، وطرقٌ لتطبيقها حتى تستمرَّ في البقاء وتكون مُخلِصة لأخلاقياتها الخاصة، والتي من شأنها أن تفكِّك الأنماط الكلاسيكية للعمل مُتحلِّيةً بما يكفي من القوّة لمقاومة الصعوبات“.
ترجُو بشرى ظهور هياكل أقوى مبنية حول الجوانب الإنسانية والبشريّة. تقول الناشطة ناصحةً: “من المهم أيضًا امتلاك فكر سياسي بنَّاء والتعويل على التمويل الذاتي”.
بشرى مُمتنَّة لشوف: “إنها مجموعةٌ بَنتنِي. كان من العسير مشاهدتها تندثر. إنه لأمرٍ مُطمئِن أن نرى مجموعات أخرى تظهر هذه الأيام وتحمل المشعل. يمكنهم القيام بعمل أفضل وتجنّب أخطائنا. أنا هنا لدعمهم وتشجيعهم”. تدعو الناشطة إلى استمراريةٍ تختلف عما فعلته “شوف”، ولكنها تُحذِّر قائلة: “أنا لا أقبل أن يتم تناسينا. لا أفهم سبب ذلك. احتفظ الأشخاص الذين واللاتي مرُّوا.ن بـ “شوف” أو “شُوفتُهنَّ” بالروابط الثمينة التي أُنشِئت سابقًا، ثمّ تركوا.ن بصمة في تلك المجموعة وبَنوا.ن ذواتهم.ن أثناء مرورهم.ن بها. أتمنى أن يُنجَز في يوم من الأيام عمل جدِّي لتوثيق هذه التجربة. إذ لم نقم بتدوينها أو توثيقها بالشكل المناسب. كنّا في صلب النضال، مشغولين.ات بالتحرُّك والنشاط”.
كان المجتمع المدني التونسي، بعد 2011 مزدهرًا وكثيفا: كانت الجمعيات والمجموعات والمنظمات غير الحكومية تتكوَّن للدفاع عن قضايا متعدّدة. لقد كانت صحوةً كبيرة. مثَّل ذلكَ الوسطَ الذي صَمدت فيه “شوف” طيلة 5 سنوات. لا يُمكن إنكار أثرِ مثل هذا المجتمع المدني الحيويّ. تؤكّد بشرى التريكي ذلك في قليل من الأسف. “أتأسَّف على تلك المرحلة التي كان على المجتمع المدني إثرَ سنة 2011 المرور بها: مرحلة النشاط دون إمكانيات، بشكل عفوي، على الميدان مباشرة. لقد كانت مرحلة التواجد في مجموعات وجماعات في حالتها الخامِّ دون تمويل. لم يكفِنا الوقتُ لنعيشَ على تلك الحال. بعد سنة 2011، انتقلنا من مرحلة اللا شيء إلى ظهور العديد من صناديق التمويل التي اصطفَّ أمامها الجميع. وجدنا أنفسنا ننصاع لتوجيهات الممولين والمانحين الذين لا يشاركوننا بالضرورة نفس القيم والقناعات. وظهرت معايير أخرى وأيضا طرق أخرى للعمل… وفي خِضم ذلك كلّه، كان الجميع يحاول التأقلم بطريقة ما، والسباحة مع التيار”. وهكذا تم تمييع جوهر بعض النضالات النبيلة حتَّى.
“الإرهاق” ما بعد الثوريّ
اليوم، بعد 12 عامًا من اندلاع الثورة، يشهد النضال ركودًا. يعاني النشطاء.ات والمواطنون.ات ورجال ونساء السياسة من “إرهاق” جماعي. لقد أَخلى الشغف مكانه للإرهاق والتعب. تُراقِب بشرى التريكي هذه الطاقة الخامدة منذ سنة 2019. وتنظر إليها في شيء من الأمل: “المجتمع المدني في حالة خمود بسبب انعدام التواصل. وهو تواصل لا يزال من الممكن إحداثه. فنحن أنفسنا لم نكن على اتصَّال بالجيل الذي سبقنا. الجيل الجديد قوي للغاية، ولكنه أيضًا معزول جدًا. ربما ذلك هو اختياره. فهو جيل يفضل أداء أكثر فوضوية، وهذا أمر مقبول”. وتختمُ كلامها. هكذا تُشير الناشطة إلى الهياكل والمؤسسات المِعياريّة القائمة التي يُعتبر منوال عملها قديمًا وإلى طبقة سياسية مُنعدِمة الوجود فقدت نفسها وسطَ ما لَحِقها من تغيّرات. أما بالنسبة لقضايا الكوير والنسوية، فستبقى متأصّلة في تفكيرها مُتجذِّرة في أنشطتها المستقبلية.